رموز سوريا الجديدة: بداية مبشرة… أم عودة للأساليب القديمة؟
في عملية إعادة بناء الأوطان، التي تبعث على الأمل رغم هشاشتها، تكتسب الرموز أهمية كبرى. فالهوية البصرية الجديدة، أو الشعار المُصمَّم حديثاً، أو الأوراق النقدية الجديدة، ليست مجرد إجراءات إدارية، بل هي تعبير قوي عن مستقبل الأمة وقيمها وعلاقتها بشعبها. ولهذا، فإن الكشف الأخير عن الهوية البصرية الجديدة لسوريا والخطط لإصدار عملة جديدة يمثلان لحظات فارقة، وقطيعة رمزية مع ماضٍ مؤلم، والتزاماً بصرياً بمستقبل مختلف.
ورغم أن التصاميم الجديدة قُدِّمت كتجسيد للوحدة، إلا أن الحكومة الانتقالية التزمت الصمت بشأن جانب أساسي وهو: كيفية اتخاذ القرار. فهذه المشاريع الحيوية هي أمثلة واضحة على نمط مقلق من الصفقات التي تتم خلف أبواب مغلقة. وإننا نركز على مشروع للهوية البصرية ليس لأن تفاصيلها فريدة، بل للمفارقة العجيبة بأنها من بين أكثر مبادرات الحكومة وضوحاً للعلن حتى الآن. وحقيقة أن مشروعاً بهذه الشهرة يلفه الغموض، يكشف الكثير عن انعدام الشفافية في عقود الدولة الأخرى الأقل ظهوراً. فبحسب كل المعطيات، مُنحت العقود بشكل مباشر، دون طرح مناقصة عامة أو مسابقة مفتوحة. ولم يتم تقديم أي مبرر لهذا النهج الغامض، مما يترك السوريين والمجتمع الدولي يتساءلون: لماذا تم اختيار هذا الطريق؟
من المهم التأكيد هنا أن الهدف ليس الحكم على جودة الهوية البصرية بحد ذاتها، بل استخدامها كمرآة تعكس ما هو أكبر وأخطر: صفقات ومشاريع ضخمة تتم بعيداً عن أعين الشعب. إن تبرير أي خطأ بالقول ‘إنه أفضل من عهد الأسد’ هو إهانة لتضحيات السوريين. فالمقارنة بنظام الأسد لا ترفع السقف، بل تضعه في أدنى مستوياته. ما يستحقه السوريون اليوم ليس مجرد حكومة ‘أقل سوءاً’، بل حكومة تستلهم من تطلعاتهم وتعمل بشرف واحترام وكرامة لخدمتهم.
صرحت الجهة المنفذة بأنها قامت بهذا العمل مجاناً، معتبرة إياه شرفاً لخدمة الوطن. ورغم أن هذه اللفتة الوطنية تستحق الثناء ظاهرياً، إلا أنها لا تعفي الحكومة من واجبها في تحقيق الشفافية. فالحكم الرشيد لا يقتصر على توفير المال، بل يهدف إلى ضمان العدالة ومنع أي نفوذ خفي وبناء ثقة الشعب. فمشروع ‘مجاني’ يُمنح في السر ليس لفتة وطنية بقدر ما هو استثمار سياسي. إنه يفتح الباب أمام ‘الفساد الناعم’، حيث تُستبدل الرشوة المباشرة بالولاءات والمصالح المستقبلية. فالهدايا في عالم السياسة هي ديون مؤجلة، تُسدد لاحقاً من المال العام عبر عقود حصرية وصفقات تفضيلية. ولماذا مُنحت هذه الجهة تحديداً هذا الشرف، وما يرافقه من رصيد سياسي هائل، بينما حُرم عدد لا يحصى من السوريين الموهوبين من فرصة المشاركة؟
إن تجاهل أفضل الممارسات المتبعة عالمياً يحمل في طياته مخاطر كبيرة، فهو يفتح الباب فوراً لاتهامات بالمحسوبية والفساد، حتى لو لم يتم تبادل أي أموال، مما يقوّض شرعية الحكومة التي تسعى لبنائها. والأخطر من ذلك، أن هذه السرية ليست مجرد إخفاق إجرائي، بل تبدو كأنها استراتيجية متعمدة لتمرير تغييرات جوهرية على هوية الدولة بعيداً عن أي نقاش مجتمعي حقيقي. فالسرية هي الغطاء المثالي لفرض واقع جديد قد لا يقبله السوريون لو عُرض عليهم بوضوح. فالكثيرون لاحظوا أن علم الثورة والاستقلال بدأ يختفي تدريجياً من المشهد الرسمي، سواء في العروض العسكرية أو شعارات الوزارات أو حتى في المحافل الدولية، مما يطلق نبوءة مقلقة بأن هذه الهوية البصرية الجديدة ما هي إلا خطوة نحو استبدال العلم الذي كان الضامن الوحيد لهوية سورية جامعة في وجه نظام الأسد والفصائل المتطرفة على حد سواء.
لقد أضاعت الحكومة فرصة تاريخية لتضميد جراح أمة ممزقة. فعملية التصميم نفسها كانت غامضة تماماً. وبدلاً من استشارة شعبية حقيقية ومدروسة، اقتصرت المشاركة على استبيان بسيط تم نشره على وسائل التواصل الاجتماعي. إن مثل هذا الاستبيان يفتقر لأبسط معايير الصحة الإحصائية، فكيف يمكن لأداة كهذه أن تمثل آراء الشعب السوري بكل تنوعه، بما في ذلك الملايين في مخيمات اللجوء، والمناطق ذات الوصول المحدود للإنترنت، والشرائح المجتمعية التي لا تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي؟
إن بناء الهوية الوطنية يتطلب حوارات مجتمعية عميقة، وورش عمل مع الخبراء، ولقاءات مع السوريين في الداخل والمهجر، وليس مجرد أداة رقمية سطحية لا ترقى لمستوى المهمة ونتائجها غير صالحة علمياً. ولم تُنشر نتائجه أبداً، ليظل السوريون يتساءلون عما قاله مواطنوهم، وكيف أثرت هذه اللفتة الرمزية على التصاميم النهائية، هذا إن أثرت أصلاً.
تواجه الحكومة الانتقالية الآن خياراً حاسماً. فتجاهل الأسئلة المتعلقة بقراراتها يعني البدء في بناء سوريا الجديدة على أسس قديمة من السرية والإقصاء. أما الطريق البنّاء فيكمن في التواصل والمشاركة.
للبدء في إعادة بناء ثقة الشعب، يجب على الحكومة أولاً أن تقدم تبريراً كاملاً وشفافاً لقرارها بمنح هذه العقود بشكل مباشر. فإذا كانت هناك أسباب قاهرة، فيجب توضيحها للشعب. ثانياً، وهو الأهم، يجب أن تلتزم الحكومة بعمليات مفتوحة وتنافسية في جميع المشاريع المستقبلية. هذه الخطوة وحدها كفيلة بإرسال إشارة قوية بأن عهد الحكم الجديد سيكون مختلفاً.
إن التحول نحو أفضل الممارسات الآن ليس علامة ضعف، بل قوة. سيُظهر أن الحكومة تستمع لشعبها، وأنها ملتزمة حقاً ببناء دولة تخدم جميع مواطنيها. لقد تم الكشف عن رموز سوريا الجديدة، لكن الأوطان لا تُبنى بالرموز فقط، بل بالثقة التي تمنح هذه الرموز قيمتها. والشفافية والمشاركة ليستا مجرد خيارين في الحكم الرشيد، بل هما الأساس الوحيد الذي يمكن أن تقوم عليه سوريا التي يستحقها السوريون.