أخيرًا، سقط نظام الأسد بعد حقبة طويلة ومؤلمة. وبينما يحمل هذا الحدث الأمل لسوريا جديدة، فإنه يثير أيضًا مشاعر معقدة وصعبة للكثيرين منا. إذا وجدنا أنفسنا نشعر بعدم الارتياح، بمزيج غريب من الراحة والقلق، وحتى بشعور الفقدان، فنحن لسنا وحدنا. ما قد يختبره الكثير منا و هو الخوف من فقدان دور الضحية، الخوف من أن معاناتنا قد تُنسى، وأن جزءًا من هويتنا قد يُمحى.
لأكثر من خمسة عقود، استخدم نظام الأسد استراتيجية “فرّق تسد”، حيث كان يضع الجماعات المختلفة في مواجهة بعضها البعض بينما يقمع بشكل منهجي الكثيرين، بما في ذلك الأقليات. وبينما ادعى النظام حماية الأقليات، فإن أفعاله غالبًا ما عززت الطائفية وتهميش العديد من المجتمعات، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر الأكراد والآشوريين وحتى بعض العلويين والمسيحيين الذين تجرأوا على المعارضة. خلق هذا شبكة معقدة من الاضطهاد، حيث شعرت بعض الأقليات بأنها مستهدفة بسبب هويتها، بينما واجه آخرون الاضطهاد بسبب معتقداتهم السياسية، وعانى الكثيرون من كلا الأمرين. هذا لا يعني نسيان معاناة الأغلبية السنية، التي تحملت جزء كبير أيضًا من وطأة وحشية النظام. إن تجربة الاضطهاد في سوريا متعددة الأوجه ولا يمكن اختزالها في سردية واحدة.
الآن، مع رحيل الأسد، يبدو الأمر كما لو أن الأرض قد اهتزت من تحت أقدامنا. النظام الذي استخدم الطائفية كأداة للسيطرة لم يعد موجودًا. هذا أمر جيد وضروري، لكنه قد يكون أيضًا مربكًا للغاية. قد نسأل أنفسنا: من نحن الآن في غياب هذا النوع المحدد من الاضطهاد؟ ما هو هدفنا؟ هل سيتم الاعتراف بمعاناتنا، أو المعاناة التي شهدناها؟ هل ستبقى قصتنا مهمة؟ هل تفويض الحكومة الجديدة لإصلاح ما تم كسره يعني أننا سنفقد هويتنا وقصتنا؟
مشاعرنا مشروعة، تجاربنا متنوعة
من المهم أن نفهم أن هذه المشاعر مشروعة تمامًا. لا بأس أن نشعر بفقدان، وحتى بالحزن، على الهوية التي تشكلت في بوتقة الاضطهاد أو تأثرت بمشاهدته. لا بأس أن نشعر بالقلق بشأن المستقبل وعدم اليقين بشأن مكاننا في هذه سوريا الجديدة. إن تجاربنا، سواء كأعضاء في أقليات مستهدفة أو كحلفاء وقفوا متضامنين، متنوعة ومعقدة. كلها مهمة. إنها جزء من هويتنا، وهي جزء من قصة سوريا.
يمكن أن يظهر “الخوف من فقدان دور الضحية” بطرق عديدة. قد نجد أنفسنا ضائعين وبلا اتجاه، لأن النضال الذي حدد حياتنا أو فهمنا للعالم لفترة طويلة قد انتهى، ومن الطبيعي أن نشعر بفقدان الهدف. قد نكون أيضًا مترددين في إعطاء الثقة. بعد سنوات من الخيانة والوعود الكاذبة، خاصة في ظل نظام تلاعب واستغل الاختلافات، قد يبدو من المستحيل الثقة بأي سلطة جديدة. قد يدفعنا هذا التردد إلى مقاومة التغيير، والتمسك بروايات الاضطهاد أو الظلم المألوفة، حتى لو كانت مؤلمة. علاوة على ذلك، فإن الصدمة التي عانينا منها أو شهدناها لا تختفي بسهولة. يمكن أن تظل باقية، مما يجعل من الصعب المضي قدمًا، خاصةً عندما نشعر بأن الهوية التي ساعدتنا على التكيف مع تلك الصدمة مهددة. أخيرًا، فإن فكرة أن معاناتنا، أو المعاناة التي شهدناها، قد يتم التقليل من شأنها أو نسيانها في هذا العصر الجديد يمكن أن تكون مؤلمة للغاية. وينطبق هذا بشكل على الأقليات التي قد يتم التغاضي عن تجاربها و ينطبق على الاكثرية السنية التي حصلت على الحصول الاكبر من الاضطهاد لكونها مسنهدفه بشكل مباشر او لكونها تشكل الاكثرية، في سردية أوسع للمصالحة الوطنية.
ما وراء مظلومية الجماعة: نحو مساواة حقيقية
ولكن وسط هذه المشاعر الصعبة، هناك أيضًا ضوء في نهاية النفق. إن سقوط النظام ليس نهاية قصتنا؛ إنها بداية فصل جديد. فصل يمكننا فيه تجاوز عقلية الاضطهاد الجماعي وبناء مجتمع متجذر في المساواة الحقيقية. هذه سوريا الجديدة لديها القدرة على أن تكون مكانًا يتم فيه الاعتراف بكل أشكال المعاناة والتحقق من صحتها. تتحمل الحكومة الجديدة مسؤولية معالجة مظالم الماضي، ووضع آليات للحقيقة و المحاسبة والمصالحة، وضمان سماع أصوات جميع الفئات المهمشة أخيرًا، بغض النظر عن خلفيتها.
في هذه سوريا الجديدة، يمكن النظر إلينا كأفراد، وليس فقط كأعضاء في جماعة. نحن أكثر من مجرد هوياتنا الدينية أو العرقية. نحن أفراد نتمتع بمهارات ومواهب وآمال وأحلام فريدة. هذه سوريا الجديدة تحتاج إلى مساهمات كل فرد لإعادة البناء والتعافي. يمكننا أيضًا أن نجد إحساسًا جديدًا بالهدف. بدلاً من القتال ضد مضطهد أو أن يتم تعريفنا من خلال معاناة مجموعتنا، يمكننا الآن توجيه طاقتنا نحو بناء مجتمع عادل ومنصف لجميع السوريين، حيث يتم تقدير واحترام كل مواطن. أخيرًا، يوفر هذا العصر الجديد إمكانية الشفاء وإيجاد السلام. من خلال الوصول إلى دعم الصحة النفسية ومجتمع يقدّر الشفاء والمصالحة، يمكننا أن نبدأ في معالجة صدماتنا، أو الصدمات التي شهدناها، وإيجاد نوع من الخلاص.
العثور على مكاننا معًا، على قدم المساواة
لن تكون الرحلة المقبلة سهلة. سوف تتطلب الشجاعة والصبر والرغبة في احتضان التغيير. سوف تتطلب منا إعادة تعريف هويتنا، ليس فقط كضحايا للماضي أو كأعضاء في جماعة معينة، ولكن كمواطنين متساوين في سوريا جديدة. سوف تتطلب حوارًا مفتوحًا وتفهمًا والتزامًا بتفكيك هياكل الاضطهاد التي فرقتنا لفترة طويلة.
للتنقل في هذا المسار، يمكننا أن نبدأ بالتواصل مع بعضنا البعض عبر حدود المجموعات. دعونا نشارك مشاعرنا وخبراتنا مع الأشخاص الذين نثق بهم، ولنَبذل جهدًا للاستماع إلى تجارب المنحدرين من خلفيات مختلفة وفهمها. يجب علينا أيضًا طلب الدعم وعدم الخوف من التواصل مع أخصائيي الصحة العقلية الذين يمكنهم مساعدتنا في معالجة صدماتنا أو قلقنا وتخطي هذه المرحلة الانتقالية. علاوة على ذلك، يجب علينا المشاركة بنشاط. لنجد طرقًا للمساهمة في إعادة إعمار سوريا، سواء من خلال النشاط أو تنظيم المجتمع أو دعم المحتاجين أو بمجرد مشاركة قصصنا.
من المهم أيضًا أن نتذكر إنسانيتنا المشتركة. لقد عانينا جميعًا في ظل النظام، وإن كان ذلك بطرق مختلفة. لدينا جميعًا مصلحة في بناء مستقبل أفضل. دعونا نركز على إنسانيتنا المشتركة وتطلعاتنا المشتركة لسوريا عادلة ومسالمة. أخيرًا، يجب أن نركز على الحقوق الفردية والمساواة. في حين أن الاعتراف بالمظالم الماضية التي واجهتها المجموعات المختلفة أمر بالغ الأهمية، فلنَسع جاهدين لبناء مجتمع يُعامل فيه كل فرد بكرامة واحترام، بغض النظر عن خلفيته. لنتجاوز التركيز على هويات المجموعات ولنحتضن مستقبلًا يكون فيه جميع المواطنين متساوين حقًا بموجب القانون.
الطريق أمامنا طويل، لكنه مليء بالأمل أيضًا. نحن لسنا وحدنا في هذه الرحلة. تجاربنا مهمة، أصواتنا مهمة، ومستقبلنا مهم. دعونا نعمل معًا لبناء سوريا جديدة، سوريا يسودها العدل، وحيث يكون الشفاء ممكنًا، وحيث يمكن لكل مواطن أن يجد مكانه الصحيح، سوريا مبنية على قيم الوحدة والمساواة، حيث يُعامل الجميع بكرامة واحترام. هذه فرصتنا لطي صفحة فصل مظلم وكتابة قصة جديدة من الأمل والتجديد معًا. قصة لا تحددها انقسامات الماضي، بل من خلال التزامنا المشترك بمستقبل يكون فيه جميع السوريين أحرارًا ومتساوين حقًا.